(( عطر الياسمين))
رذاذ المطر يتساقط على زجاج النافذة ... وغيوم داكنة تتجمع في السماء والتي كانت قبل وقت قصير صافية..
عصفور يقف على احد اغصان الشجرة التي تشابكت واخذت ترتطم بين فترة واخرى بزجاج النافذة من جراء هبات الهواء الخفيفة ..
لم يخف العصفور من قطرا المطر المتساقطة بل جعله يتلذذ في
الانتقال من غصن الى اخر وهو يزقزق نشوانا..
وضع ( احمد ) قلمه الذي كان يحاول لن يكتب به منذ الصباح.
تناول عليه سجائره واخرج واحدة منها .. ووضعها بين انامله وظل يتأملها من كل الجهات يقراء ماركتها وكأنه يراها لآول مرة
وهو الذي اعتاد تدخين هذا الصنف من السجائر لسنوات عديدة
ووضعها بين شفتيه واشعلها بعود من الثقاب ابقاه مشتعلا حتى كاد يحرق اصابعه..
رماه في منفضة السجائر التي كانت على شكل ذئبا مكشرا عن انيابه.
امتص من سيجارته نفسا عميقا .. ثم نفث
دخانها لينتشر في سماء الغرفة على شكل دوائر متصلة بعضها بالاخر.. سرعان
ما تلاشت بعد لحظات قليلة.
لا يعرف مابه اليوم .. شيء ما غير كل ماكان يأمل القيام به والافكار التي راودت مخيلته تشوشت
فلم يستطع الاهتداء الى كلمة واحدة يكتب زاويته التي تظهر صباح كل يوم اثنين في المجلة التي يعمل بها ..
اهو العجز ..؟
ام الجفاف الذي يداء يخط خطوطه القاسية في افكاره ..
ام هناك اشياء اخرى تشغله وتجعله عاجزا عن عمل اي شيء..
افاق من شروده على دقات ساعة الجدار ..
مد بصره الى عقاربها فوجدها قد اصطفت فوق الرقم ( 12 )لتعلن منتصف النهار
وهو بعد لم يكتب كلمة واحدة رغم محاولاته المستمرة منذ ساعات
كتب عدة مرات .. ومزق جميع ماكتب رماه في سلة المهملات.
دفع كرسيه ذو العجلات الى الوراء .. قام من مكانه الى النافذة ..
فتحها بقوة ذعر على اثرها العصفور
الصغير وطار مرتبكا بعد ان ارتطم جناحاه بغصن الشجرة .. كاد يسقط على
اثرها .. الا انه استطاع التحليق غاضبا.
ضربت وجه احمد قطرات ناعمة من المطر المتطاير وقبلته نسمات خفيفة باردة جعلته ياخذ نفسا عيقا ادخل بعض الهدوء الى روحه القلقة..
مد بصره الى بعيد متذكرا ذاك الحلم الرائع الذي كان يراود
افكاره ويجعل اوقاته سعيده .. ولكن كل شيء الان تلاشى واصبح سرابا ..
اليوم يحس بانه يسيرفي متاهات بعيدة ومتشعبة كلها ظلام لا يعرف مين تقوده ..
وتذكر تلك الرسالة التي اعتادت مرسلتها ان تعطرها بعطر الياسمين وترسلها اليه كل اسبوع وتسال مع نفسه:
،،لا بد ان تكون ( منار ) صاحبة الرسالة .. نفس الاسلوب نفس الكلمات التي كنا نهمس بها لبعضنا ..
لا بد ان تكون هي ،، عاد الى مكتبه بعد
ان اغلق النافذة .. وفتح جرار المكتب واخرجها ففاح عطرها في الغرفة .. انه
نفس العطر الذي يحبه وتحبه .. عطر الياسمين الذي يذكره بتلك اللحظات
الجميلة من سنين عمره .. تلك الامال التي كانت في يوم ما كبيرة .
اعاد قراءة الرسالة من جديد .. لم يعرف عدد المرات التي قراها فيها : لان هناك شيئا ما يشده اليها ..
شيء يجعله يتلهف لرسائل تلك المراة التي تبدو وكانها تعيش في اعماق اعماقه وتدخل اسرار حياته
تكشف بكلماتها كل مكونات قلبه الخافيه تعرف ما يريد ان يكتب .. ولمن يكتب.
كان ( احمد ) يكتب للامل .. للحياه .. فلما تلاشئ الامل اخذت كلماته تبكي .. وحروفه تنوح بعد ان
تشعب الياس فيها.. النجم الذي كان يتلالا في سماء حياته.. انطفأ .
القمر الذي كان يبتسم له كل ليله .. غاب عنه حجبته الغيوم الكثيفة فأصبحت كل لياليه مظلمة ومخفية
البلبل الذي كان يغرد له اجمل الالحان .. طار الى مكان لا يعرفه .. الورده العطرة التي كانت متفتحة في
رياض حياته تعيق روحه بشذاها قطعت عن غصنها فذبل وكاد ينحني وينعيبر لولا بقيه من صمود تعجب
هو نفسه له .. فاصبحت السيجارة والقلم الحزين رفاق ليله الطويل .
وتاتي رسالتها هذه تطلب فيها ان يكون الامل طريقه .. كتبت له :
( وما دام الغصن شامخا .. فستورق الف زهرة .. وزهرة )
كلمات لا يتذكر بالضبط متى كتبها ..
تعيدها عليه .. اذن لا بد ان تكون هي ( منار ) ذاك العصفور الذي هرب من
غصنه وحط على اخر .. بعيد .. تلك التي خانت اجمل كلمات العشق .. خانت كل
العهود
من اجل ماذا ..؟ ربما من اجل حفته من الدنانير او من اجل بضعة قطع من الجواهر.
او ربما من اجل اشياء اخرى والان تعود لتكتب له عن الامل ..! .. والاحلام ..؟
اي امال .. اي احلام!!
اه يا عطر الياسمين.. ماذا فعلت بك السنين؟ ...
ردد مع نفسه :
ربما كانت هي .. او ربما كانت احدى قارئات المجلة وما اكثر رسائلهن .. ربما ...
مرا فترة طويلة على اخر رسالة معطرة وصلته من تلك المراة التي تذيل رسائلها المطبوعة
بكلمة ( عطر الياسمين ) وتساءل خلال هذه الفترة في قلق عن سبب رسائلها وعيناه تتفحص
وتفتش بتلهف اكداس الرسائل التي تصله اسبوعيا من قراء المجلة ..
ولكن لا اثر لآي شيء منها.
وفي يوم وهو جالس في غرفته وامامه
مجموعة من الرسائل .. والاوراق ..وبين شفتيه تحترق سيجارته واعقاب كثيرة
تملا جوف ذاك الذئب الجائع وبين يديه قلم ينفث دموعه الحزينة على الورق..
طرق الباب ودخل ساعي البريد يحمل رساله
قال ان احدهم جاء بها اليه وطلب ان يوصلها اليه بالسرعة الممكنة لآهميتها
وذهب مسرعا .. وتناولها منه بعد ان شكره .. خرج الساعي واغلق الباب خلفه ..
تفحص المضروف .. والعنوان المكتوب عليه .. احس ان الخط ليس غريبا عليه..
انه نفس خط ( منار ) ردد مع نفسه في قلق : يا الهي لا بد انها هي.
اخذت دقات قلبه تسرع على غير عادتها .. وارتعشت يداه .. اضطرب كيانه كله وهو يفض المضروف
ويخرج الرسالة فوقعت عيناه على ( عزيزي ) .. تملكه نوبه من الغضب العنيف .. رمى الرسالة الى جانبه ..
تناول نفسا عيقا من سيجارته:
الخائنة .. القاسية .. ماذا تريد مني الان بعد ان هدمت ذاك الصرح الجميل الذي بنيته لها ..
وتاتي الان وتقول عزيزي!!..
اي عزيز هذا الذي جعلت احلامه كوابيس مزعجة ..
لا مزق رسالتها وارميها في سلة المهملات.
تناول الرسالة هم يمزقها .. تريث قليلا
.. وقرر ان يقراها قبل ان يمزقها .. وعاد من جديد يفتحها واخذت عيناه
تتفحص الكلمات .. ارتسمت على محياه الدهشة الممزوجة بالفزع ..
وتجمعت الدموع في عينيه .. كتبت له :
عزيزي .. لا تجعل طيور الهم تعشعش داخل كيانك .. اطرد الكوابيس الياس واشعل شموع الامل ..
لتنير للناس دروبهم فشمعتي اخذت تذبل وهي الان تحتضر وتنتظر لحظة الانطفاء..
اناشدك بحق تلك الكلمات الجميلة التي كنت تتغنى بها لي وقوافي الغزل الرائعة التي نظمتها من اجلي ..
تلك الحكايات الرائعة الجميلة ..
اكتب للامل والعن اليأس ..فالامل ياعزيزي يجعل للدنيا طعم ونكهة رائعة ..
لحظات قليلة ويسكت القلب الذي تسكن فيه
.. فبأسم هذه اللحظات ان كان لي في القلب بقية من الذكرى ان تكون كلماتك
للناس الذين ينشدون الحياة الجميلة .. للمحبين الذين يعانون الشقاء وعذاب
البعد ..
اجعل كلماتك لهم كالبلسم الشافي للجراح.. قطرات الدمع التي سالت فوق كلماتي هذه واختلطت مع حبر قلمي تبع من اعماق اعماقي ..
وحبك اثمن ما املك ..
ولكن القدر؟ الذي ابى ان تدوم سعادتنا
اصابني بداء ليس له علاج .. ولا منه شفاء.. هربت من حياتك من اجل سعادتك
.. هربت من حياتك ولكنك لم تهرب من حياتي لانك حياتي.
اقراء كل ماتكتبه فاحس بانك تكتب لي
وحدي..تحملت مرارة البعد وعذاب الشوق فكان اصعب علي من عذاب المرض ..
حاولت ان اعيش واياك على الورق وتناقشنا على صفحات المجلة كثيرا ..
ذبلت رسائلي التي كتبتها ( عطر الياسمين ) ذاك العطر الذي كنت تهواه وتعشقه وتكتب له اجمل الكلمات ..
كنت اكتب لك عن الفرح وعن السعادة وعن الامل والاحلام الجميلة الرائعة ..
كل كلماتي تلك كانت دموعا تبع من اعماق
روحي وجراحها تنزف كل الاوقات والان وانا في هذه اللحظات الاخيرة من عمري
اكتب لك حقيقة لا توجد سواها..؟ لم يكن هناك فارسا اخر لاحلامي غيرك..
ولم يكن هناك عشا ادفأء من عشك. ولم تكن هناك عينان تغوص بهن احزاني اعظم من عيعيب ..
ولكن كان هناك الموت الذي ر تستطيع قهره. كان السرطان الذي يسري في دمائيي وينهش جسدي.؟
وينتشر فيه كما تنتشر النار في الزرع اليابس .
والان يا رفيقي الذي كان لي النور في حياتي المظلمة ..انت يا دمعتي .. واهتي .. يا كل شيء ..
اودعك فقد حانت لحظة الوداع وقلمي اخذ
ينفث دموعه على ورقتي.. ويكتب باعياء كقلبي العليل المتعب..الوداع .. تذكر
انك كنت اخر طيف يزورني .. فمن اجل ذكراي .. ومن اجل حبي لك اكتب لاامل
واترك الياس .. وداعا يا اعز ويا اغلى انسان وداعا .. وداعا..
فلم يتمالك نفسه فأجهش بالبكاء واخذت
دموعه تتساقط بغزارة .. رفع راسه فتراءة له من بين الدموع ذاك الوجه
الجميل وهو يبتعد عنه قليلا.. قليلا . ضرب بقوة نفاضة السكائر فوقعت على
الارض وتناثرت الى قطع صغيرة صاح بصوت عال ..
يالها من حقيقة قاسية .. ظلمتك وقسوت عليك وما عرفت انك انبل واعظم امراة عرفتها نفسي.
اه ايها الزمن الملعون . ماذا فعلت بالامل؟
ام ايها الزمن القاسي .. لماذا حكمت علي ان اعيش كل ايامي بعدها بلا احلام..
اه ايها الزمن الذي لا يرحم لماذا سرقت مني الحياة
سامحيني فقد ضلمتك وانتظريني فانا الان في طريقي اليك الحياه بعدك ضياع.. والعمر بعدك هباء..
انت الشمعة التي كانت تنير طريقي فلما انطفئت بت لا اعرف اين اضع قدمي ..
برقت في خاطره فكرة..اسرع فتناول زجاجة
حبوب مهدئة كان يستعملها في الفترة الاخيرة .. وضع كل مافيها في فمه وشرب
كوبا من الماء .. دارت به الارض وتراقصت الاضواء والجدران.. اهتز امامه كل
شيء . وسقط لا يعي شيئا.
فتح عينيه بصعوبة فتراءت له الالوان
باهتة والوجوه التي امامه كانها اتيه من بعيد .. من وراء ضباب كثيف ..
وشيئا فشيئا . اخذت تنكشف له تلك الوجوه على طبيعتها .. واستطاع تمييز
بعضها .. ابتسم الطبيب بارتياح فقد تجاوز مرحلة الخطر الذي كان على حافة
الوقوع في هاويته .. فمنذ يومين وهو يصارع الموت .. تحرك بصعوبة في فراشه
.. واحس ببعض الالام في كل جسده.. همس وكانه يخاطب نفسه فخرج وته ضعيفا
يكاد لا يسمع: اين انا ؟ ومن الذي جاء بي الى هنا ؟ .. لماذا لم تتركوني
الحق بها ؟.. لماذا .. لماذا ..؟
بللت الدموع وجهه الشاحب المصغر,, فسئله الطبيب قائلا :
اهداء يا صديقي .. لماذا الياس اذا منت تملك اهذ المقدار من الحب في قلوب الناس لماذا لا تسعدهم .. لماذا تريد لهم الشقاء؟
فان لم يكن الى نفسك فمن اجل اولئك الذين يحبونك بهذا القدر.. لانهم الامل .
هداء قليلا وهو يرى باقات الزهور تملاء
غرفته من ناس لا يعرفهم غير انهم يعرفونه من خلال كتاباته التي مانت
تحدثهم عن الامل والحياة والاحلام الورديه..
خرج من في الغرفة تاركينه لوحده . مد يده المرتعشة ..
وبصعوبه تناول احدى باقات الزهور القريبه من سريره قراء فيها:
( الى من زرع الامل في حياتي .. وطرد طيور الهم من افكاري اهديك تمنياتي القلبيه بالشفاء ..
فما دام الغصن شامخا .. فستورق الف زهرة .. وزهرة ) قارئة قديمة.
ظل ممسكا بالبطاقة.. مد بصره بعيدا نحو
السماء الصافية وذهب الى ما وراء المسافات البعيدة .. دخل عوالم
الامتناهيات وبرفقة طيفها وكلماتها الاخيرة .. تطالبه ان يكتب ويعيش للامل
ولا يجعل الياس يطفي على افكاره .. تذكر انها تطلب منه ذلك .. ان لم يكن
من اجل نفسه .. فمن اجلها هي :
( اه مادام الغصن شامخا فستورق الف
زهرة .. مادام الامل باقيا فستظل الشموع تظيء .. فمن اجل تلك الشمعة التي
انطفئت ساشعل الف شمعة .. واجعل كل الكلمات التي اكتبها قبسا واغاني امل
تفرح لها كل القلوب )
مسح دموعه المتساقطة .. ودب في جسده خدر لذيذ واغفاءة كعطر الياسمين اثقلت جفناه ..
واستسلم ليغط في نوم عميق.
اتمنى ان تنال اعجابكم
الإثنين يونيو 28, 2010 10:29 pm من طرف الاميرة سندريلا