منذ ظهر أدب الجاسوسية - بمفهومه الحالي - إلى الوجود، في عالمنا العربى، مع بدايات ستينيات القرن العشرين، وعَبْر ما يزيد قليلاً عن أربعين عاماً، طالعتنا قصص وعناوين مختلفة، تدور كلها -أو معظمها- عن عمليات قامت بها أجهزة المخابرات، المصرية والعربية، أو حتى العالمية، وتردَّدت في العقول والأذهان، من خلال أوراق الصحف أو الكتب، أو شاشات السينما أو التليفزيون، أو الشبكات الإذاعية، أسماء العديد من الشخصيات، التي ساهمت في كتابة تاريخ المخابرات، سلباً أو إيجاباً.
مثل (هبة سليم)، تلك الجاسوسة المثقفة، ذات الطابع الخاص جداً، والتي لم تنجح مصريتها في كبت أحلام وتطلُّعات طموحاتها المتفجِّرة، فاندفعت بكل عقلها ونشاطها، ومواهبها المتعدِّدة، نحو طريق الخيانة، وطرحت هويتها تحت أقدام المخابرات الإسرائيلية، التي أوهمتها بأحلام التفوّق والقوة والنجاح، والتي لم تستيقظ منها، إلا وحبل المشنقة يلتفّ حول عنقها الجميل. قبل حتى أن يعرف العامة قصتها، ويتابعون خيانتها، على شاشة السينما، من خلال أوَّل وأقوى فيلم عن عمليات المخابرات (الصعود إلى الهاوية)، والذي قدَّمها فيه الراحل المبدع (صالح مرسى)، تحت اسم (عبلة كامل)، مع تلك العبارة الشهيرة، التي انحفرت لروعتها في كل الأذهان: (هي دي مصر يا عبلة)..
أيضاً أتحفنا التليفزيون المصرى، في بداية التسعينيات، بقصة (أحمد الهوَّان)، ذلك المصري البسيط، الذي لعب دوراً مزدوجاً مدهشاً، لخداع المخابرات الإسرائيلية، وانتزاع واحد من أفضل وأحدث أجهزة الاتصال -أيامها- من بين أنياب ذئابها، في مسلسل حمل طابعاً فريداً، في ذلك الحين، باسم (دموع في عيون وقحة)، منح خلاله الأستاذ (صالح مرسى)، لبطل القصة الحقيقى، اسماً يتناسب معه إيقاعياً كعادته (جمعة الشوَّان)..
ولكن، ومع كل ما ظهر إلى الوجود -عربياً- عبْر هذا النوع من الأدب، لم يحظ جاسوس واحد، بكل ذلك الاهتمام، وكل تلك الشهرة، المحلية والعالمية، أكثر من (رفعت علي سليمان الجمَّال)، ذلك المصري الشاب، الذي وصفه من التقطوه في بداياته بأنه أقرب إلى المحتال، منه إلى رجل الأعمال، مع كل ما يجيده من مهارات وخبرات، وقدرة مدهشة على اجتذاب من حوله، والتأثير فيهم، وإقناعهم بأية رواية يُحِيكُها ذهنه، أو يتدرَّب عليها بإتقان..
ومنذ ظهور قصة (رفعت الجمَّال) إلى الوجود، كرواية مسلسلة، حملت اسم (رأفت الهجَّان)، في 3 يناير 1986م، في العدد رقم (3195) من مجلة (المصوِّر) المصرية، جذب الأمر انتباه الملايين، الذين طالعوا الأحداث في شغف مدهش، لم يسبق له مثيل، وتعلَّقوا بالشخصية إلى حد الهوس، وأدركوا جميعاً، سواء المتخصصين أو غيرهم، أنهم أمام ميلاد جديد، لروايات عالم المخابرات، وأدب الجاسوسية، وأمام بوَّابة جديدة فريدة، تنفتح لأوَّل مرة، على هذا النحو من القوة، أمام القارئ العادي..
وتحوَّلت القصة إلى مسلسل تليفزيوني، سيطر على عقل الملايين، في العالم العربي كله، وأثار جدلاً طويلاً، لم ينقطع حتى لحظة كتابة هذه السطور، في منطقة الشرق الأوسط بأكملها، بما فيها، أو لعل على رأسها، (إسرائيل) نفسها..
ولأن الأمر قد تحوَّل، من مجرَّد رواية في أدب الجاسوسية، تفتح بعض ملفات المخابرات المصرية، إلى صرعة لا مثيل لها، ولهفة لم تحدث من قبل، وتحمل اسم (رأفت الهجان)، فقد تداعت الأحداث، وانطلق الخيط بلا حدود، وراحت عشرات الصحف تنشر معلومات جديدة في كل يوم، عن حقيقة ذلك الجاسوس المدهش، الذي زرعته المخابرات المصرية في قلب (إسرائيل)، لينشئ ويدير واحدة من أقوى شبكات الجاسوسية، ويبرع في خطة خداع عبقرية، ومنظومة مخابراتية رفيعة المستوى، عبر ثمانية عشر عاماً كاملة، دون أن ينكشف أمره لحظة واحدة، على عكس ما يدّعي الإسرائيليون الآن..
ومن بين كل المقالات، والأحاديث، والكتب العديدة، التي تحدَّثت عن (رفعت الجمَّال)، وحاولت كشف حقيقته، وهويته، وأسرار حياته، وبداياته، ومغامرته المذهلة، في قلب المجتمع الإسرائيلى، لن تجد أفضل، أو أقوى، أو أكثر جذباً للانتباه، وإطلاقاً للفكر، من هذا الكتاب، الذي نستعرضه هنا اليوم (18 عاماً خداعاً لإسرائيل - قصة الجاسوس المصري- رفعت الجمَّال)..
الكتاب صدر عن مركز الترجمة والنشر بالأهرام، ويحمل رقم الإيداع (4230/1994)، وليس له رقم إيداع دولى!!..
وقوة هذا الكتاب لا تكمن في ما يحويه من صور نادرة، ومعلومات لم تنشر من قبل، عن حقيقة (رفعت الجمَّال)، ولا في التفاصيل المدهشة، التي تختلف كثيراً، في بعض مواضعها، عما قرأناه في الرواية، أو شاهدناه على شاشات التليفزيون، وإنما تكمن فيما اعتبره قنبلة حقيقية، لم تتفجرَّ في لغتنا العربية قط، في مثل هذا النوع من الأدب..
تكمن في أنه يحوي فصلاً كاملاً، كتبه (رفعت الجمَّال) بنفسه، عن قصة حياة (رفعت الجمَّال)، الجاسوس المصري الأشهر..
والكتاب في مجمله هو مذكرات كتبتها (فلتراود هاينريتش شبالت)، التي عُرفت فيما بعد باسم (فلتراود بيتون)، أرملة (جاك بيتون)، وهو ذلك الاسم، الذي عُرف به (رفعت الجمَّال)، منذ تحوَّل إلى هوية يهودية، والذي حمله في (إسرائيل)، وفي (ألمانيا) رسمياً، حتى لحظة وفاته..
وينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول، يتحدَّث الفصل الأوَّل منها عن حياة (فلتراود) مع (جاك بيتون)، ولقائها به، والكثير من التفاصيل عن شخصيته، حسبما خبرتها وعرفتها شخصياً، طوال فترة زواجهما..
وهذا الفصل يبدو أشبه بقصة رومانسية، ومناجاة لحبيب رحل، بأكثر مما يرتبط بعالم المخابرات والجاسوسية، كما قد ترغب في قراءته إذا ما ابتعت الكتاب لهذا الهدف بالتحديد، ولكن، وعلى الرغم من هذا، فالفصل الأوَّل يمنحك الكثير من المعلومات الهامة، واللمحات شديدة الخطورة، بشأن شخصية (جاك بيتون)، وتغلغله القوى، في قلب المجتمع الإسرائيلى، وبالذات ذلك الجزء الذي تقول فيه (فلتراود) في مذكراتها الشخصية:
"قضيت أياماً أضفي "لمسة المرأة" على الشقة، وذات يوم، وأنا عاكفة على تنظيف المسكن دق جرس المنزل، وعندما فتحت الباب، لم أر للوهلة الأولى سوى باقة كبيرة من الأزهار، وما إن انخفضت الباقة قليلاً، حتى طالعتني أعرض ابتسامة عرفتها.. رأيت رجلاً واقفاً أمامى، وعلى إحدى عينيه عصابة من القماش الأسود، قدَّم إليَّ باقة الورد، قائلاً :
- أردت فقط أن أشاهد الغلطة، التي ارتكبها جاك بيتون.
ثم انصرف لا يلوي على شئ. أدركت أنه موشي ديان، وعرفت بعد ذلك أنه أقرب أصدقاء جاك.."
وفقاً لرواية (فلتراود)، كانت توجد إذن صداقة قوية بين وزير الدفاع الإسرائيلي السابق شخصياً، وبين (جاك بيتون)، الجاسوس المصري، الذي زرعته المخابرات العامة، في قلب (إسرائيل)..
فياللخطورة!..
ويا للقوة!..
ولم تكتف (فلتراود) بهذا القدر في روايتها، وإنما تقول في موضع آخر:
"كان أقرب الأصدقاء لنا هم موشي ديان، وجولدا مائير، وبن جوريون، وعزرا وايزمان، وكان جاك وموشي وعزرا أشبه بالفرسان الثلاثة، وكانوا عندما يجتمعون معاً، نادراً ما يعكر صفوهم أي شئ، كانت حياتهم معاً مزاحاً في مزاح، أما جولدا مائير وبن جوريون فكانا بمثابة الأبوين بالنسبة له. لقد تقبَّلاني برضاً وترحاب وأبْدَيَا عطفاً كبيراً نحوي، وكثيراً ما كانت جولدا مائير تسألني عما إذا كان جاك يحسن معاملتي أم لا..؟"
إذن فالجاسوس المصري، حسبما تذكر (فلتراود)، كان صديقاً لأكبر ثلاثة أسماء في (إسرائيل) كلها، في ذلك الحين!!..
هل يمكنك أن تدرك ما الذي يمكن أن يعنيه هذا، وأي نجاح ذلك، الذي حققه رجلنا في (تل أبيب)؟!!..
وبغض النظر عن تلك الوقفات المثيرة للدهشة والتساؤل، فهذا الفصل من الكتاب يمضي مع ذكريات (فلتراود) حتى لحظة وفاة زوجها (جاك بيتون)، في الثلاثين من يناير 1982م، في (دارمشتاد) في (ألمانيا)..
وبعد عدة صفحات، تحوي مجموعة من الصور الهامة لمراحل حياة (جاك بيتون)، ينتقل بنا الكتاب إلى الجزء الثاني والخطير، والأكثر أهمية في الكتاب كله..
إلى قصة حياة (رفعت الجمَّال)، كما رواها هو…
شخصيــــاً..
وهذا الجزء هو الترجمة الحرفية لعدد كبير من الصفحات، التي كتبها (جاك بيتون) بخط يده، باللغة الإنجليزية وتركها لدى محاميه؛ ليسلّمها إلى زوجته (فلتراود)، بعد فترة حدَّدها بثلاث سنوات من وفاته، باعتبار أنها ستكون فترة كافية لتستعيد تماسكها، واستعادة قوتها، بحيث يمكنها تحمُّل الصدمة التي ستشعر بها، عند قراءتها مذكراته الخاصة، كما يقول بنص كلماته، في مقدِّمة المذكرات، و..
وللحديث بقية
الأحد أغسطس 16, 2009 10:09 am من طرف ابو حامد