***********عودة الميت********
تجاوز العجوز العقد السادس من عمره.. نجار موبيليا ماهر.. من إحدي قري دمياط.. حكايته ليست من نسيج الخيال لكنها مازالت حديث أهل قريته الذين شاهدوا وعاشوا أحداثها.
الأسطي عادل منذ صباه اشتهر بين زملائه في المهنة وأبناء جيله بالشهامة والكرم.. لم يعرف مرة واحدة لغة جمع الأموال.. اشتد عوده.. ووجد الأموال تجري بين أنامل الصغار من الصبية حوله وهو مازال يتنقل بين الورش هنا وهناك مجرد عامل لا يملك سوي قوت يومه وزوجته..
وبعد فترة قصيرة من زواجه رزق بطفله الأول وما ان اشتد عوده الصغير حتي رزق بطفلين آخرين توأم.. وفوجئ بضيق ذات اليد وأصبح أجره اليومي لا يكفي قوت أطفاله. ليفيق من غشاوته وعلم أنه لابد أن يسعي علي رزقه ليلبي احتياجاته واحتياجات زوجته وأطفاله الثلاثة وهداه تفكيره بضرورة السفر للخارج.. أعد الأوراق وراح يلملم ملابسه ويسافر إلي العراق.. حتي يتمكن من تدبير الأموال التي تعينه علي تربية أطفاله .. أيام قليلة والتحق بالعمل هناك وبدأ يرسل كل دينار يتقاضاه لأسرته ظنا انهم علي عهده بهم يدخرونه لحين عودته عاماً بعد عام وهو يواصل الليل بالنهار وإرساله دخله من الدنانير لأسرته.. ليفاجأ في النهاية بعدم ادخارهم دينارا واحدا وفي نفس الوقت أدارت الدنيا هناك له ظهرها ولم يجد فرصة للعمل بالاضافة لعدم استطاعته حتي العودة فلم يجد أمامه سوي البقاء وأمام زيادة الأحوال سوءاً هناك انقطعت أخباره ولم يستطع حتي الاتصال بأسرته ولا يعلم بوفاة والديه.
أعوام عديدة مضت علي انقطاع أخباره تجاوزت أكثر من 16 عاماً لا يعلم عن أفراد أسرته سوي أسمائهم فقط.. وهم لا يعرفون إذا كان حياً أو ميتاً حتي بلغ الابن الأكبر السن القانونية لأداء الخدمة العسكرية فلم تجد الأسرة أمامها سوي اتخاذ الإجراءات التي تفيد تغيب الأب وفقدانه منذ زمن طويل بتحرير محضر بتغيبه واستخرجوا شهادة ساقط قيد وفاة الأب.. وحصول الابن الأكبر علي الإعفاء من الخدمة لأنه العائل الوحيد لأسرته بعد وفاة الأب واستخرجت الأسرة إعلام الوراثة الشرعي لتوزيع تركة المفقود التي ورثها عن والديه وأمام ضيق ذات اليد لأفراد الأسرة قام كل منهم عقب استلامه نصيبه ببيع جزء منه وتخلصوا من أزماتهم.
عاما بعد عام والحياة تسير بأفراد الأسرة في هدوء.. ينعمون بميراث الأب المفقود وتأكد لكل منهم عدم عودته مرة أخري حتي جاء شهر ابريل الماضي.. ومع منتصف الليل فوجئت الأم العجوز بطرقات علي باب منزلها وعندما سألت من الطارق كانت المفاجأة أنا عادل يا أم وليد.. افتحي الباب.. وظل العجوز يردد افتحي الباب يا أم وليد أنا زوجك.. لم تصدق العجوز.. لكن نبرات الصوت تشبه صوت زوجها فتحت لتفاجأ بزوجها الذي انقطعت أخباره منذ سنين وقسوة الأيام ارتسمت علي وجهه واشتعل الرأس شيبا.. وما ان تأكدت وملأت عينيها من ملامحه أصيبت بحالة هيستيرية وهرولت داخل مسكنها تستدعي أبناءها الثلاثة مرددة أبوكم عاد بعد غياب.. الغائب عاد.. في البداية ظن ثلاثتهم أنها كذبة ابريل.. وما ان شاهدوا أباهم حتي تسمرت أقدامهم غير مصدقين يضربون أخماسا في أسداس.. الأب الميت عاد بعدما توارثوا فيه وحصل كل منهم علي نصيبه ونقلت ملكيتها إليهم.
بدأ عادل يروي لزوجته مأساته طوال السنين وكيف ذاق خلالها قسوة ومرارة الأيام الطويلة بالاضافة للمشاق التي وجدها في طريق عودته من جانبها راحت العجوز تهون عليه وتدفعه لاستعادة قواه النفسية موضحة له مدي سعادتهم بعودته بعد غياب طويل ورغم أنه عاد خاوي اليدين.
وما أن علم بوفاة والديه حتي انهمر في البكاء.. وبعدها ظن ان الدنيا قد عوضته وأعطت وجهها له من جديد فنصيبه في ميراثهما يستطيع من خلاله اصلاح ما أفسده السفر وأسرع إلي مصلحة الأحوال المدنية لاستخراج بطاقة الرقم القومي لاتخاذ الاجراءات لاستلام نصيبه الشرعي في تركة والديه.. وما ان تقدم للموظف المختص بمراجعة بيانات الاستمارة لتصويره واصدار بطاقة الرقم القومي.. حتي فوجئ العجوز بالموظف يبلغه ان هذه البيانات خاصة بأحد المتوفين منذ ما يقرب من 10 سنوات.. وهنا صاح العجوز في وجه الموظف مؤكدا له كيف توفيت وان أقف أمامك بشحمي ولحمي وقدم له الوثائق الدالة علي سفره خارج البلاد وعودته مؤخرا منذ وقت قصير.. الموظف التقط الأوراق ليقدمها للواء مصطفي راضي مساعد أول وزير الداخلية لقطاع الأحوال المدنية.. وبعد تصفحها ومراجعتها راح يستدعي نائبه اللواء جمال دحروج واللواء هاني الرفاعي مدير ادارة البحث الجنائي لسرعة كشف غموض الواقعة وباستدعاء العجوز ومناقشته روي تفاصيل حياته وكيف كانت الدنيا قاسية عليه منذ سفره للعراق وفشل محاولاته في العودة لأسرته.
تم مراجعة الأوراق التي بموجبها تم تسجيله بالحاسب الآلي ضمن المتوفين.. وباستدعاء الزوجة وأبنائها الثلاثة ومواجهتهم اعترفوا باستصدار المستندات الرسمية التي تفيد ان الأب ساقط قيد وفاة وبدأت الأسرة اتخاذ الاجراءات لإعادته مرة أخري إلي الحياة بالأوراق والمستندات.
الخميس ديسمبر 31, 2009 2:46 pm من طرف البرنسيسة