سورة الجن
ثمان وعشرون آية مكية
وأنه استمع في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله؛ أي استماع وصفوا قرآناً بقولهم {عجباً} وصفاً بالمصدر على سبيل المبالغة.
وقرأ الحرميان والأبوان: بفتح الهمزة من قوله: {وأنه تعالى} وما بعده، وهي اثنتا عشرة آية آخرها {وأنا منا المسلمون}؛ وباقي السبعة: بالكسر. فأما الكسر فواضح لأنها معطوفات على قوله: {إنا سمعنا}، فهي داخلة في معمول القول. وأما الفتح، فقال أبو حاتم: هو على {أوحى}، فهو كله في موضع رفع على ما لم يسم فاعله. انتهى. وهذا لا يصح، لأن من المعطوفات ما لا يصح دخوله تحت {أوحى}، وهو كل ما كان فيه ضمير المتكلم، كقوله: {وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع}. ألا ترى أنه لا يلائم {أوحى إليّ}، {أنا كنا نقعد منها مقاعد}، وكذلك باقيها؟ وخرجت قراءة الفتح على أن تلك كلها معطوفة على الضمير المجرور في به من قوله: {فآمنا به}: أي وبأنه، وكذلك باقيها، وهذا جائز على مذهب الكوفيين، وهو الصحيح. وقد تقدم احتجاجنا على صحة ذلك في قوله: {وكفر به والمسجد الحرام}. وقال مكي: هو أجود في أن منه في غيرها لكثرة حذف حرف الجر مع أن. وقال الزجاج: وجهه أن يكون محمولاً على آمنا به، لأنه معناه: صدقناه وعلمناه، فيكون المعنى: فآمنا به أنه تعالى جد ربنا؛ وسبقه إلى نحوه الفراء قال: فتحت أن لوقوع الإيمان عليها، وأنت تجد الإيمان يحسن في بعض ما فتح دون بعض، فلا يمنعك ذلك من إمضائهن على الفتح، فإنه يحسن فيه ما يوجب فتح أن نحو: صدقنا وشهدنا.
وأشار الفراء إلى أن بعض ما فتح لا يناسب تسليط آمنا عليه، نحو قوله: {وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً}، وتبعهما الزمخشري فقال: ومن فتح كلهن فعطفاً على محل الجار والمجرور في آمنا به، كأنه قيل: صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا، وأنه كان يقول سفيهنا، وكذلك البواقي. انتهى. ولم يتفطن لما تفطن له الفراء من أن بعضها لا يحسن أن يعمل فيه آمنا.
وقرأ عكرمة: جد منوباً، ربنا مرفوع الباء، كأنه قال: عظيم هو ربنا، فربنا بدل، وقرأ عكرمة: جداً ربنا، بفتح الجيم والدال منوناً، ورفع ربنا وانتصب جداً على التمييز المنقول من الفاعل، أصله تعالى جد ربنا{وَأَنَّهُ تَعَلَى جَدُّ}. وقرأ قتادة وعكرمة أيضاً: جداً بكسر الجيم والتنوين نصباً، ربنا رفع. قال ابن عطية: نصب جداً على الحال، ومعناه: تعالى حقيقة ومتمكناً. وقال غيره: هو صفة لمصدر محذوف تقديره: تعاليا جداً، وربنا مرفوع بتعالى.
وانتصب {كذباً} في قراءة الجمهور بتقول، لأن الكذب نوع من القول، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي قولا كذباً، أي مكذوباً فيه. وفي قراءة الشاذ على أنه مصدر لتقول، لأنه هو الكذب، فصار كقعدت جلوساً.
وظنوا وظننتم، كل منهما يطلب، أن لن يبعث{وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا}، فالمسألة من باب الإعمال، وإن هي المخففة من الثقيلة.
الظاهر أن وجد هنا بمعنى صادف وأصاب وتعدت إلى واحد، والجملة من ملئت{أَحَداً * وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ فَوَجَدْنَهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} في موضع الحال، وأجيز أن تكون تعدت إلى اثنين، فملئت في موضع المفعول الثاني. وقرأ الأعرج: مليت بالياء دون همز، والجمهور: بالهمز، وشديداً: صفة للحرس على اللفظ لأنه اسم جمع، كما قال:
أخشى رجيلاً أو ركيباً عادياً
ولو لحظ المعنى لقال: شداداً بالجمع.
{فمن يستمع الآن}، الآن ظرف زمان للحال، ويستمع مستقبل، فاتسع في الظرف واستعمل للاستقبال، كما قال:
سأسعى الآن إذ بلغت اناها
ودون في موضع الصفة لمحذوف، أي ومنا قوم دون ذلك. ويجوز حذف هذا الموصوف في التفصيل بمن، حتى في الجمل، قالوا: منا ظعن ومنا أقام، يريدون: منا فريق ظعن ومنا فريق أقام، والجملة من قوله: كنا طرائق قدداً{الصَّلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ} تفسير للقسمة المتقدمة. قال ابن عباس وعكرمة وقتادة: أهواء مختلفة، وقىل: فرقاً مختلفة. وقال الزمخشري: أي كنا ذوي مذاهب مختلفة، أو كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة، أو كنا في طرائق مختلفة كقوله:
كما عسل الطريق الثعلب
أو كانت طرائقنا قدداً على حذف المضاف الذي هو الطرائق، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه. انتهى. وفي تقديريه الأولين حذف المضاف من طرائق وإقامة المضاف إليه مقامه، إذ حذف ذوي ومثل. وأما التقدير الثالث، وهو أن ينتصب على إسقاط في، فلا يجوز ذلك إلا في الضرورة، وقد نص سيبويه على أن عسل الطريق شاذ، فلا يخرج القرآن عليه.
وقرأ ابن وثاب والأعمش والجمهور: {فلا ىخاف}، وخرجت قراءتهما على النفي. وقىل: الفاء زائدة ولا نفي وليس بشيء، وكان الجواب بالفاء أجود من المجيء بالفعل مجزوماً دون الفاء، لأنه إذا كان بالفاء كان إضمار مبتدأ، أي فهو لا يخاف. والجملة الاسمية أدل وآكد من الفعلية على تحقق مضمون الجملة.
وقرأ الجمهور: {وأن المساجد}، بفتح الهمزة عطفاً على {أنه استمع}، فهو من جملة الموحى.
وقرأ الجمهور: {وأنه لما قام عبد الله} بفتح الهمزة، عطفاً على قراءتهم {وأن المساجد} بالفتح. وقرأ ابن هرمز وطلحة ونافع وأبو بكر. بكسرها على الاستئناف.
{إلا بلاغاً}، قال الحسن: هو استثناء منقطع، أي لن يجيرني أحد، لكن إن بلغت رحمني بذلك. والإجارة للبلاغ مستعارة، إذ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته. وقيل على هذا المعنى: هو استثناء متصل، أي لن يجيرني في أحد، لكن لم أجد شيئاً أميل إليه وأعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيزني الله، فيجوز نصبه على الاستثناء من ملتحداً وعلى البدل وهو الوجه، لأن ما قبله نفياً، وعلى البدل خرجه الزجاج. وقال أبو عبد الله الرازي: هذا الاستثناء منقطع، لأنه لم يقل: ولم أجد ملتحداً بل، قال: {من دونه}؛ والبلاغ من الله لا يكون داخلاً تحت قوله: {من دونه ملتحداً} لأنه لا يكون من دون الله، بل يكون من الله وبإعانته وتوفيقه. وقال قتادة: التقدير لا أملك إلا بلاغاً إليكم، فأما الإيمان والكفر فلا أملك. انتهى، وفيه بعد لطول الفصل بينهما. وقيل، إلا في تقدير الانفصال: إن شرطية ولا نافية، وحذف فعلها لدلالة المصدر عليه، والتقدير: إن لم أبلغ بلاغاً من الله ورسالته، وهذا كما تقول: إن لا قياماً قعوداً، أي إن لم تقيم قياماً فاقعد قعوداً، وحذف هذا الفعل قد يكون لدلالة عليه بعده أو قبله، كما حذف في قوله:
فطلقها فلست لها بكفءوإلا يعل مفرقك الحسام التقدير: وإن لا تطقها، فحذف تطلقها لدلالة فطلقها عليه، ومن لابتداء الغاية.
{ورسالاته}، قيل: عطف على {بلاغاً}، أي إلا أن أبلغ عن الله، أو أبلغ رسالاته. الظاهر أن رسالاته عطف على الله، أي إلا أن أبلغ عن الله وعن رسالاته.
وقرأ الجمهور: {فإن له} بكسر الهمزة. وقرأ طلحة: بفتحها، والتقدير: فجزاؤه أن له. قال ابن خالويه: وسمعت ابن مجاهد يقول: ما قرأ به أحد وهو لحن، لأنه بعد فاء الشرط. وسمعت ابن الأنباري يقول: هو ضراب، ومعناه: فجزاؤه أن له نار جهنم. انتهى. وكان ابن مجاهد إماماً في القراآت، ولم يكن متسع النقل فيها كابن شنبوذ، وكان ضعيفاً في النحو. وكيف يقول ما قرأ به أحد؟ وهذا كطلحة بن مصرّف قرأ به. وكيف يقول وهو لحن؟ والنحويون قد نصوا على أن إن بعد فاء الشرط يجوز فيها الفتح والكسر. وجمع {خالدين حملاً} على معنى من، وذلك بعد الحمل على لفظ من في قوله: {يعص}، {فإن له}.
{حتى إذا رأوا}: حتى هنا حرف ابتداء، أي يصلح أن يجيء بعدها جملة الابتداء والخبر، ومع ذلك فيها معنى الغاية. قال الزمخشري: فإن قلت: بم تعلق حتى وجعل ما بعده غاية له؟ قلت: بقوله {يكونون عليه لبداً}.
ومن أضعف مبتدأ وخبر في موضع نصب لما قبله، وهو معلق عنه لأن من استفهام. ويجوز أن تكون من موصولة في موضع نصب بسيعلمون، وأضعف خبر مبتدأ محذوف. والجملة صلة لمن، وتقديره: هو أضعف، وحسن حذفه طول الصلة بالمعمول وهو ناصراً.
وقال ابن عباس: إلا بمعنى لكن، فجعله استثناء منقطعاً. وقيل: إلا بمعنى ولا أي، ولا من ارتضى من رسول وعالم خبر مبتدأ محذوف، أي هو عالم الغيب، أو بدل من ربي. وقرىء: عالم بالنصب على المدح.
وأحصى كل شيء عدداً{أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ}: أي معدوداً محصوراً، وانتصابه على الحال من كل شيء، وإن كان نكرة لاندراج المعرفة في العموم. ويجوز أن ينتصب نصب المصدر لأحصى لأنه في معنى إحصاء. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون تمييزاً. انتهى، فيكون منقولاً من المفعول، إذا أصله: وأحصى عدد كل شيء، وفي كونه ثابتاً من لسان العرب خلاف.
الأحد أغسطس 22, 2010 3:18 pm من طرف حسن البنا