منارة الإسكندرية هذا البناء العملاق الضخم الذى خلب لب الأقدمين مما جعلهم يعدونه أحد عجائب الدنيا السبع وقد اتخذت المنارة أسم الفنار الذى لا يختلف كثيرا فى معظم اللغات عن أسم الجزيرة التى أقيم عليها وهى جزيرة فاروس ومن بعد اتخذت هذا الأسم كل المنارات الأخرى فى العالم
. وهو بناء أفاد الحياة البحرية لمدة 16 قرن وهو البناء الوحيد - باستثناء المعابد - الذى خدم كل هذه الفترة وهو لذلك مازال فى ذاكرتنا وخيالنا حتى الآن .
وكثيرا ما ذكر الفنار فى نصوص القدماء والمعاصرين وكثيرا ما نجده فى الرسوم أو المنحوتات ( تصوير، فسيفساء، عملات .....) كما أخذت المصابيح شكله وقد ساعدت كل هذه الوثائق هيرمان تيرس فى إعادة رسم شكل الفنار .
بدأ بناء الفنار فى عهد بطليموس الأول حوالى عام 290ق.م وانتهى العمل به بعد 10 سنوات تقريبا فى عهد بطليموس الثانى بواسطة المهندس سو ستراتس. وفى حوالى عام 700 ميلاديا سقط مصباحه. وقد أعيد ترميمه فى عام 880 ميلاديا وفى عام 910 ميلادية ولكن أدى زلزال عام 1100 ميلادية إلى وقوع الجزء المثمن منه، ثم دمر تماما بزلزال عام 1303 ميلادية .
وبعد قرن واحد ونصف تقريبا من سقوطه أقام السلطان الأشرف قايتباى قلعته الشهيرة على نفس موقع الفنار فى أقصى الطرف الشرقى لجزيرة فاروس واستخدم بعض حجارته فى بنائها.
وفى الحقيقه فان ذكر الفنار لم ينقطع منذ إنشائه إلى الآن فنجد وصفا فى كتابات الرحالة القدامى وكذلك الرحالة المسلمين ، حتى بعد سقوطه فقد أشار Greaten Leper إلى وجود بقاياه تحت الماء بجوار القلعة تماما كما أشار لذلك Dejaujany عام 1985.
بل كانت تشد الرحال إلى هذا الموقع للنزهة والسياحة ومع التذكارات ( الآثار القديمة ) فى التسعينات من القرن التاسع عشر وطبعا لم يفت Jondet أن يضعها على خريطته بعد أن كلف أحد الغواصين بالغوص فى المكان عام1910 .
وقد عاد الفنار مره أخرى ليكون على مسرح الأحداث مع ظهور المرحوم كامل أبو السعادات. ولمزيد من المعلومات عن تلك الحقيقة من الجدير بالذكر أن اليونسكو قد بعثت خبيرة الآثار البحرية هونروفروست والجيولوجى فالاديمير نستروف لعمل خريطة طوبوغرافية للآثار الغارقة فى هذا المكان ، بمساعده أبو السعادات تمكنت H.F من عمل أول خريطة للموقع وضعت فيها أهم ما رأته تحت الماء وقد بلغ عددها 17 قطعة أثريه وقد نشرت نتائج عملها عام 1975، ومنذ ذلك التاريخ والاهتمام بهذا العمل مستمر .وقد تهدد هذا الموقع بشكل خطير فى عام 1993 عندما قامت هيئه حماية الشواطىء بإلقاء عدد 180 كتلة خرسانية ضمن خطه لعمل منحدر أسمنتى كبير لحماية القلعة مما سبب ضررا بالغا للآثار تحت الماء ، لذلك فقد طلبت هيئه الآثار من ( جان ايف امبرير) مدير مركز الدراسات السكندرية أن يقوم بعمل حفائر إنقاذ فى الموقع ، فكون مجموعه عمل من 15 غواص(اثريين، رسامين ، مصورين، طوبوغرافين ، غواصين محترفين ) للعمل تحت إدارته وبتمويل من المعهد الفرنسى للآثار الشرقية وبمراقبة الأثريين الغواصين العاملين بهيئة الآثار المصرية. وقد استمر العمل لمده 6 أسابيع فى أكتوبر و نوفمبر عام 1994 وكان الهدف منها معرفة مساحة الموقع وعمل خريطة طبوغرافية بالصور قبل انتشال مجموعه من هذه الآثار تختارها الهيئة.
والموقع مساحته 22,5 ألف م 3 وعمق من 6 إلى 8 أمتار ويحتوى على أكثر من 3000 قطعة أثرية معمارية ( أعمدة - قواعد- تيجان- أعتاب )،ومعظم هذه الكتل من الجرانيت الأحمر أو الوردى والباقى من الكالسيت والكوارتيز ، الحجر الرملى والجيرى ، الرخام ، البازلت ، كما أن معظمها ذات مقاييس ضخمة وأوزان ضخمة، وهى تنتمى لكل من العصرين الفرعونى واليونانى الرومانى.
ولا تغيب المنحوتات من الموقع ، حيث توجد تماثيل ضخمة هلينستية على الطراز الفرعوني، وتوجد مجموعه من تماثيل أبي الهول تحمل خراطيش الفراعنة ، وكذلك نقوشا غائرة للفراعين والمعبود بتاح . وفى حين عثر على نقش واحد باللغة اليونانية إلا أنه عثر على مجموعة كبيرة من النقوش الهيروغليفية .
وقد أدت هذه النتائج الهامة إلى تشجيع هيئة الآثار على مشروع حماية القلعة والبحث عن طرق أخرى لحمايتها، وإلى أن يطلب مركز الدراسات السكندرية عمل حفائر منظمة بالمكان.
ومنذ عام 1995 وحتى الآن مازال العمل مستمراً بالموقع ، ولقد اختلط على الموقعين الكثير من المتخصصين سواء أثريين أو علماء مصريات أو معمارين أو جيولوجين بحريين بالإضافة إلى الخدمات المعاونة كالمصورين والطبوغرافيين والرسامين والغواصين المحترفين.
وقد بدأت الحفائر المنظمة بعمل مسح لكل ما هو موجود بالقاع وتقرر بعدها تسجيل كل الكتل والقطع الموجودة وتوقيعها على خريطة واحدة ، وقد استخدمت أكثر من طريقة لإتمام هذا العمل ، ففى الحالة الهادئة للبحر كان يستخدم نظام المثلثات تحت الماء ، ثم يتم تسجيل جميع النقاط على جهاز الكمبيوتر .
وقد تم تنظيف جميع الكتل بواسطة سكاكين المعجون للتعرف عليها جيدا أو أخذ مقاساتها بدقة ثم رسمها وتصويرها فوتوغرافيا وفى النهاية يتم عمل مستند لكل كتلة بكامل بياناتها، وقد سمح استخدام كاميرا الفيديو الرقمية بمراجعة الصور مباشرة على الكمبيوتر وقد تم اختيار عدد 34 قطعة من بين 3000 قطعة الموجودة لانتشالها فى خريف 95 ( 4 أكتوبر الى21 أكتوبر)وقد لحق هذه العملية عمليه أخرى لانتشال كتلتين أمام رئيس جمهورية فرنسا فى حضور الوزراء المصريين والفرنسيين ومحافظ الاسكندرية فى أبريل 1996 وقد روعى فى اختيار هذه الكتل أن تكون نموذجا لكل ما هو موجود تحت الماء من الناحية الأثرية والفنية والتاريخية .
وقد تم وضع هذه الكتل فى أحواض مملؤة بالمياه للترميم وذلك بغرض تخليصها من الأملاح التى تتخللها على مر السنين وذلك بتغيير المياه كل فترة حتى الوصول لحالة ثبات الأملاح وهو عمل استمر لمدة 6 أشهر ، وقد تلى هذا العمل مباشرة عمليات التنظيف الميكاعيبية للتخلص من بقايا الحشف البحرى المتكلس عليها .
وبالنسبة للكتل الوارتريت فقد تم تقويمها بسليكات الايثيل ، وقد قام بهذا العمل الجاد مجموعة الكيمائيين بمعمل الصيانة والترميم بكوم الدكة ، حيث تم وضع هذه الآثار فى متحف مفتوح على بعد 20 م من المسرح الرومانى حتى يتمكن المرممين من مراجعتها من وقت لآخر والسؤال الآن ، من أين جاءت هذه الآثار ؟
بالرجوع إلى المصادر القديمة يمكن إرجاع هذه الآثار إلى مصدرين :
الأول : الفنار والمنشآت التى كانت موجوده على الجزيرة والتى دمرت بفعل الزلازل المتعاقبة .
الثانى : يخبرنا به الكاتب العربى الإدريسى حيث يشير إلى أن الوزير النوبى لصلاح الدين قد قام بجمع الآثار الملقاة بجوار عامود السوارى وألقاها فى البحر فى مدخل ميناء الإسكندرية لتكون عائقا أمام أسطول إحدى الغزوات الصليبية عام 1167م
ويفسر وجود الآثار الفرعونية فى هذا الموقع برغبة البطالمة فى تزيين مدينتهم وكان من السهل بالنسبة لهم استعارة آثار قائمة ومنحوتة ومنقوشة من أماكن قريبة بدلا من تحجيرها بأسوان، وتحمل معظم هذه الآثار أسم مدينه (أون) (هليوبوليس) والتى أشار سترابون فى عام 25 قبل الميلاد إلى أنها أصبحت قرية .
وفى أثناء العمل بدأت فكره انتماء بعض هذه الأحجار إلى الفنار نفسه، فبالنظر إلى الخريطة المفصلة لهذه الأحجار يتبين أن هناك مجموعة من الأحجار يزيد وزنها عن 20 طن وطولها عن 5م تصطف فى الاتجاه الشمالى . بل إن إحدى هذه الكتل قد عيبرت إلى نصفين مما يدل على سقوطها من مكان مرتفع.
ومن هاتين الملحوظتين يتبين لنا أن هذه الكتل هى عناصر وقعت من بناء عالى وضخم ، وبالطبع فإن الفنار كان هو المبنى الوحيد الكبير والضخم بهذا المكان.
ومن الطبيعى أن هذه الأحجار الضخمة لم تكن من تلك المجموعة التى نقلها وزير صلاح الدين خاصة وأن منها ما يزيد وزنه على 75 طن وهو ما يشكل عبأ بشريا وفنيا كبيرا لنقله فى تلك الفترة .
تبقى مشكله واحدة وهى ما ذكره سترابون عن لون الفنار الأبيض، على حين أن معظم الأحجار الغارقة من الجرانيت الأحمر ، ويمكن تفسير الأمر بأن حجر البناء كان فعلا من الجرانيت وأن البطالمة فى بداية عهدهم فى مصر قد استخدموا وسائل المصريين الفنية بتعيبية أحجاره بالحجر الجيرى كما كان يفعل الفراعنة فى منشأتهم ( الأهرام مثلا) .وبعد كل ما سبق، بقى سؤال واحد يتردد الآن فى مصر هو : هل من الضرورى انتشال هذه الآثار من الماء ، ولماذا لاننشأ متحفا مائيا تحت الماء بهذا المكان ؟.
قبل الاجابه عن هذا السؤال نستعرض بعض الحقائق :
أولا :كان لانتشال هذه الآثار من الماء أبلغ الأثر فى جذب انتباه المسؤولين والمتخصصين والجمهور فى مصر وخارجها ، أعطى مؤشراً عن أهمية الموقع وحجمه.
ثانيا: التعامل مع هذه الآثار على الأرض وليس تحت الماء تعطى الوقت الكافى ويوفر الجهد والمال فيما يجب أن يتم من عمل عليه كتجميع أجزاء مسلة أو تمثال مثلا كما يعطى فرصة للتنظيف الدقيق وهو الذى ساعد على ربط إحدى المسلات سيتى الأول وليس رمسيس الثانى بعد ظهور خرطوشه الصغير بعد التنظيف .
كما أن وجود هذه الآثار تحت أشعه الشمس بزواياه المختلفة أدى إلى اكتشاف علامات ونقوش لم يكن يراها أحد تحت الماء بسبب ضعف نفاذية الضوء .
ثالثا : أن عرض هذه الآثار قد أدى إلى مزيد من الضغط للاهتمام بالموقع وهو ما يؤدى إلى دعاية جيدة لإنشاء متحف تحت الماء يضم ما بقى مما يزيد على 3000 كتلة، كما أنه فرصة جيدة للجميع كبيرا وصغيرا قويا وضعيفا لرؤية هذه الآثار .
رابعا: كل القطع الصغيرة التى تزن اقل من100 كج معرضة للسرقة .
وتتم الآن دراسة فكرة إنشاء متحف تحت الماء بالتعاون بين المجلس الأعلى للآثار ومنظمة اليونسكو ، وتجرى الدراسات البحرية ( جيولوجيا وفيزيئيا وبيئيا) للوصول لأفضل الوسائل لاقامة مثل هذا المتحف والمقدر له أن يكون أهم وأكبر متحف تحت الماء فى العالم .
ومازال العمل جاريا فى الموقع حيث يتم رفع باقى الحائط الخرسانى الرابض فوق الآثار والبحث تحته خاصة وأنه تم العثور بين هذه المكعبات الخرسانية على قواعد تماثيل أعمدة ورؤوس تماثيل ، وقد أدى رفع عدد 45 مكعب خرسانى إلى العثور على حوالى 500 كتلة أثرية مما يعنى أنه مازال هناك الكثير للبحث عنه .
ومن ناحية أخرى فالعمل يجرى أيضا على الأرض لدراسة علاقات الآثار ببعضها ومعرفة الأحجار وترجمة النقوش وأشكال المبانى التى كانت قائمة إن أمكن.