إبراهيم الصوالح عضو جديد
العمل : مزاجك : الهوايه : الجنس : عدد المساهمات : 3 تاريخ التسجيل : 05/04/2013 نقاط : 4260
| | قراءة في منهج تربية الطفل عند "روسُّو" | |
قراءة في منهج تربية الطفل عند روسّو*إبراهيم عبد الغني الصوالح مقدمة : في عصر كان الساسة فيه تلامذة مخلصين " لمكيافيللي " البشر عندهم كما يقول " خبثاء متقلبون مراؤون ، يتمسكون بالمصالح المادية أكثر من تمسكهم بحياتهم الخاصة " (1) " يجب ألا تهتم الدولة بتثقيفهم " (2) في زمن كان الحاكم فيه يرتدي عباءة الدين ، والملك ظل الله على الأرض (3) يجلس على عرشه فيها (4) ، في زمن الملك الشمس ، الملك الأعظم (5)( لويس الرابع عشر(1638- 1715)) الذي حكم فرنسا حكماً مطلقاً ، يقوم على الحق الإلهي ، هذا الحق الذي دافع عنه " روبرت فلمر " في كتابه " الحكم الأبوي " ، وقال فيه إن البشر ليسوا أحراراً بالطبيعة، وأننا جميعاً نولد عبيداً (6) وأن الملك فوق القوانين ، وكل فرد بحكم المولد مسخر بحكم ولادته لمن يلده (7) في زمن يؤمن فيه " مونتسكيو " (1689-1755) بالانتخابات العامة ، ويطالب بهذا الحق الذي يقصره على طبقات السادة والنبلاء ، ويحرم منه طبقة عريضة من الناس ، ويصفهم بالدناءة والنذالة والانحطاط ( وينادي فيه " فولتير" بأن الأغنياء خلقوا ليَحكُموا والفقراء خلقوا ليُحكَموا (9) لأن العقل والتفكير عنده من خواص الأغنياء ، في هذا العصر المضطرب ، ومن الطبقة التي وصفها " مونتسكيو " بالدناءة والنذالة وقال عنها " فولتير " بأنها خلقت لتُحكم ، يولد جان جاك روسو " (1712-1778) فيحرمه النظام الاجتماعي من الذهاب إلى المدرسة ، لكنه يتعلم من الدنيا فيفهم الحياة ، تقاذفته تيارات عصره ومعتقداته السياسية والاقتصادية والاجتماعية فثار عليها كالبركان ، يقذف حممه هنا وهناك ، لا يهاب قوة ولا إرهاباً ، لا يخشى بأساً ولا سلطاناً ، غير هياب ولا وجل ، ولا عجب " من يسكن القاع لا يسقط أبداً " علمته الحياة بمر التجربة ، تتلمذ على يد الطبيعة ، فأخلص لها ونادى بالعودة إليها في كل كتاباته ، يكتب في العقد الاجتماعي " وعندما يناله التعب ينتقل ليكتب في "إميل " الذي وصفه أحد المفكرين بقوله " يتميز كتاب إميل بأنه حافل بالإبداعات المبتكرة والملاحظات الرائعة التي لو اقتسمها عشرات من الكتاب العاديين لأصبح كل منهم بها علماً من الأعلام في الموضوع الذي كان من نصيبه (10) .تأثر به " بزداو " (1723-1790) فدعا بني وطنه لجعل التعليم علمانياً وقومياً (1) واعتنق مبادئه " بستالوتزي (1776-1827) فرفض أن يكون قسيساً وترك اللاهوت إلى القانون والاهتمام بالتربية منادياً بإصلاح المجتمع عن طريق التربية والتعليم (2) تأثر به " كانت" (1724-1804) ونادى بعد ظهوره " لا شالوتيه "(1701-1785) إلى جعل التعليم في يد الدولة لا في أيدي جماعات دينية مثل جماعة اليسوعيين (3) في كل كتابات " روسو " كان ينطلق في فكرة مسلمة لديه " إن الناس أحرار بالطبيعة (4) وأن الإنسان يولد صالحاً بطبيعته محباً للعدل والنظام فيفسده المجتمع السيء الذي لا يساوي بين الناس والمنافع ، والتملك جائر لأنه مقتطع من الملك الشائع ، على المجتمع أن يرجع إلى الطبيعة ، وهناك يتفق الناس بعقد اجتماعي على إقامة مجتمع يرضي به المجتمع ، فيقيمون بذلك حكومة تمنح الجميع ذات الحقوق وتقوم سيادة الشعب مقام سيادة الملك ، وتنظم الثروة والتربية والديانة (5) . إنها حقاً ثورة تربوية ، لكل ثورة وقودها التي دفع "روسو" ثمنها فأفقدته الظروف أبناءه الخمسة الذين دفعته حياة عصره ليسلمهم بيديه إلى ملجأ اللقطاء ، وحرمته من تربيتهم ، لكنه يسهم في وضع منهج لتربية أولاد العالم ، هكذا هم العباقرة الذين بسلوكهم يثيرون استهجان واستغراب المجتمع الذي لا يلبث أن يلهث وراء أفكارهم واكتشافاتهم ، ويدفع الكثير ليصل إلى جزء منها ، فهل حقاً أراد " روسو " أن يكفر عن هذه الخطيئة التي لا تغتفر بوضع كتاب إميل العظيم الشأن ؟ كما يقول مترجم هذا الكتاب (6) ، أتت" فيه آراء " روسو منهلاً تربوياً متدفقاً ، نهل منها كثير من المربين القدامى مثل " بستالوتزي "و" فروبل " و" بزداو " و" سولزمان " و" كامب " و" كانت " و"هربارت" و"سبنسر" وكثير من المربين في العصور الحديثة مثل "جون ديوي " و"كلباتريك "و"باركهرست"و"منتسوري"و"دكرولي"و"كولدول كوك"و"برتراند راسل " و "ننن" و"فندلي " و"بادلي" و" مونرو" و" بالارد " و" جون آذمز (7).لذلك كان روسو "حقاً" زعيم المربين –" وكان أول من أدخل النور والهواء في مدارس كانت مغلقة مظلمة ، فطالب المدرسين بوجوب دراسة أطفالهم دراسة تتناول تفكيرهم وعقولهم ، وملاحظاتهم ، وطرقهم في النظر إلى الأشياء ، عاداتهم وميولهم ، ما يحبون وما يكرهون ، كيف نشوقهم ونستميلهم ونجذب قلوبهم (1) نحميهم من الرذيلة فيتعلمون الفضيلة ، نحمي عقولهم من الخطأ فتسعى إلى الحقيقة وتصل إلى المعرفة انطلاقاً مما هو موجود وما يرى بالحواس لتكوين المعرفة المجردة ، التي لا تتكون ولا يتم بناؤها داخل المؤسسات المضحكة ( المدارس) حيث لا وطن ولا مواطنين بالتمرين يتعلم التلميذ مهنة الحياة ، بالرضاعة من الأم تنمو المشاعر مع الجسد ، بالتوازن في تربيته من كلا الأبوين يتعلم الحرية مع الأخلاق والسلوك مع المعرفة ولتربية إميل وتنمية البعد الأخلاقي لديه ليصبح مواطناً صالحاً وضع " روسو" كتابه وشهد لجمهورية " أفلاطون " بأنها أجمل رسالة وضعت عن التربية وحتى يصل بالتربية إلى غاياتها النبيلة وأهدافها في تكوين المواطن الصالح حدد أربعة مبادئ يجب أن تبقى عندها في أولى مراحل التربية فنادى بترك جميع القوى التي تنعم بها الطبيعة على الأطفال في متناول استعمالاتهم لأنهم لا يمكن لهم أن يسيئوا استعمالها وطالب بمساعدة الأطفال في تدارك ما يعوزهم من المعرفة أو القوة في كل احتياج بدني وأن يكون العون الذي يقدم لهم مقتصراً على النافع الحقيقي ، وعدم تلبية داعي الهوى فالهوى ليس من الطبيعة ، وأن تدرس لغتهم وإشاراتهم بعناية وذلك لكي يفرق في رغباتهم في سن لا يعرفون أن يخادعوا فيها بين ما يصدر عن الطبيعة مباشرة وما يصدر عن الرأي في مقدمة كتابه إميل يقول "روسو" : يتمسك أحكم الكتاب بما يجب أن يعلمه الرجال غير ناظرين إلى ما يمكن الأولاد أن يتعلموه وهم يبحثون عن الرجل في الولد دائماً غير مفكرين في أمر الولد قبل أن يكون رجلاً " ملخصاً بذلك جل المشكلة التربوية التي يعاني منها مجتمعه والتي يعود إليها فساد المجتمع لذلك نراه في أول سطر من كتابه يقول :" كل شيء يصنعه خالق البرايا حسن ، وكل شيء يفسد بين يدي الإنسان " (1) وهو يصور بذلك واقعاً فاسداً ويطرح مشكلة التربية بكل ثقلها في مجتمع قيَّد نفسه بمفاهيم السلطة والضرورة والتشبُّه ، وبالنظم الطبقية الاجتماعية ، فابتعد بذلك هذا المجتمع عن الفطرة ، الحق ، حق الطفل والطفولة، وما مرد هذا الفساد المستشري إلا لأن البداية فاسدة ، وأن أي إصلاح يجب أن ينطلق من التربية الحقيقية ، والتنشئة الصحيحة للطفل بحيث نسعى أولاً إلى كمال الأعضاء كوسائل لاستيعاب المعرفة ، وأن تكون التربية الأولى سلبية تحفظ العقل من الخطأ والقلب من الرذيلة . لذلك خص توجيه كلامه إلى الأم الحنون البصيرة ، وطالبها بالابتعاد عن الشارع والمدينة ، عن المفاهيم والتقاليد السائدة ، وصيانة هذه الشجيرة في البيئة المتوازنة ، في البيئة الريفية وتعهد الغرسة الحديثة ورعايتها حتى تصل إلى درجة الاعتماد على نفسها ، فكما "تُكيف النباتات بالزراعة يكيف الناس بالتربية " وهو يبتعد في دعوته في العودة إلى الطبيعة عن الدعوة إلى الحياة التي تقيد الحرية أو الحياة الفوضوية ، وقد حمل " روسو " الأبوين المسؤولية كاملة عن تربية ابنهما التربية المتوازية والمتوازنة التي تحتاج إلى زمن طويل وهذا شرط لأن النمو السليم المتكامل مرتبط بالزمن وما ذلك إلا دعوة صريحة لتنظيم النسل فإذا ما وافقا على هذا الشرط عندئذ يأتي دور انتقاء مصادر التربية والتعلم التي صنفها " روسو " في مصادر ثلاثة فيقول :" نولد ضعفاء ونحن محتاجون إلى القوة لذلك نحتاج إلى العون ، ونولد بلهاً لذلك نحتاج إلى الإدراك ، وكل ما نحتاج إليه إذا كان عظيماً فإننا نناله بالتربية التي تأتينا من الطبيعة أو من الناس أو من الأشياء " " وما نشوء خصائصنا وأعضائنا نشوءاً باطنياً إلا بمثابة التربية الطبيعية وما نتعلمه من إعمال هذا النشوء هو تربية الناس أما ما نكتسبه بتجربتنا الخاصة مما يحيط بنا فهو تربية الأشياء .2- * توافق التربية والمواطن :وهنا نستطيع الحديث عن محصلة تربوية ، فمن توافقت مصادر تعليمه وتربيته الثلاث كان حسن التهذيب ، ومن تباينت فيه كان سيء التهذيب ، فإذا كان الرجل يربَّى من أجل الآخرين بدلاً من أجل نفسه فهناك يكون الاتفاق مستحيلاً ، هنا أمامنا خياران فإما أن نكافح الطبيعة ونضع أنفسنا في موقع المجابهة معها فنفشل فشلاً ذريعاً ، أو نكافح النظم الاجتماعية وننشئ علاقات توافق مع الطبيعة ومع الأشياء ومع الناس ، ومن لم تتوافق مصادر تعليمه وتربيته سيخرج صورة من النظام الفاسد فيزيد سوءاً على سوء ، أما من توافقت مصادر تعليمه وتربيته فذاك هو المواطن الذي يشكل وحدة عددية وكلاً مطلقاً ، لا علاقة له بغير نفسه أو شبيهه وهو الذي يقدم مصلحة المواطن على مصلحة الشخص أو الرجل ، كل الوطن للمواطن وكل المواطنين للوطن ، علاقة بين المواطن والوطن كلية في انتمائها واحدة في مقاصدها ، ظاهرها مثل باطنها ، روابطها قوية وعلاقاتها واضحة جلية ، يقدم الاسبارطي " بيدَرايت " نفسه ليُقْبَلَ في مجلس الثلاثمائة فَيُرفَض وينصرف مسروراً كثيراً لوجود ثلاثمائة رجل في اسبارطة أفضل منه ذاك هو المواطن .3-* المدرسة التي رفضها روسو :منذ ولادة الطفل تبدأ القيود تكبل حركته وحريته تدريجياً بدءاً من تدخل القابلة في تغيير شكل رأسه ولف جسمه في قماط يخاط بطريقة تجعله لا يختلف عن التابوت الذي سيسمر فيه عند وفاته ، مروراً بالقيد الأكثر تشويهاً بل القيود الأكثر تخريباً في حياة الإنسان ألا وهي النظم الاجتماعية الفاسدة التي تجعل من الحياة مواجهة بين طرفين الإنسان والنظم وكل يحاول جاهداً اجتياز حدود الآخر ، البداية غير صحيحة تقوم على علاقة غش بأن تسلم الأم وليدها لمرضع آخر ، فينشأ الطفل مشوه المشاعر والعواطف تموت الحياة فيه من كثرة الدلال فينسج حول نفسه شرنقة يختزل فيها العالم كله ، ولا يرى الحياة إلا من خلال تشابكاتها .4-* في مدرسة روسو :التربية بمعناها الحقيقي تبدأ قبل الولادة وتستمر بلا انقطاع حتى يصبح الطفل إنساناً مواطناً قادراً على الاعتناء بنفسه والاعتماد عليها ، يعرف معنى الوطن ويعرف كيف يكون مواطناً . خير مرب للولد هو الوالد ، والمربي الشاب أقدر على مرافقة تلميذه فيكون رفيقاً له يعلمه ويتعلم منه لا يحيط بهما حدود ولا تحد من انطلاقتهما في مجاهل الحياة وخبرتها قيود . وعلى الأبوين أن يلتزما بتربية ابنهما ، فكما أن المرضع الحقيقية يجب أن تكون الأم ، فإن المعلم الحقيقي هو الأب " فإذا أرضعت الأمهات أولادهن تصلح الأخلاق من تلقاء نفسها ، وينشأ عن هذا التقويم إصلاح عام ينعكس إيجاباً على الحياة ، فالطفل يرضع مع لبن أمه البناء النفسي السليم والجسدي القوى القويم ، وإن واجبات الأب لا تقل أهمية عن واجبات الأم ، ومن لا يستطيع القيام بواجبات الأب ، لا يحق له أن يكون أباً على الإطلاق " . زد على ذلك بأن كثرة المربين تُكثِرُ من تنوع السلوك ، وذلك الشر بعينه لأنه يخل بنظام التوافق فتضطرب الحياة باضطراب السلوك ، وحتى ينمو السلوك المرغوب ويتكون ، يجب أن ينمو في بيئة خالية من التزييف والتشويش لذلك الأفضل " أن يرسل الولد إلى الأرياف ليستنشق فيها هواءً صالحاً " " قوموا بتربية أولادكم في الأرياف بكل ما في البيئة الريفية من خشونة ، فهنالك يكتسبون صوتاً أكثر رنيناً ، وهنالك لا ينالون مطلقاً لجلجلة أولاد المدن المبهمة .4-1* أفكار الطفل الأولى :تأتي الأفكار الأولى للطفل أفكار سيطرة أو عبودية ، فيأمر قبل أن يعرف الكلام ، ويطيع قبل أن يعرف العمل ، وعلى المربي أن يقرأ احساسات الطفل من نبرات صوته ، وتغير ملامح الوجه أو إيماءات العيون ، فالبكاء مثلاً ما هو إلا تعبير عن العديد من الاحتياجات ( جوع .. عطش .. برد . . ) وما هذه الدموع التي تنشئ أولى صلات الإنسان بجميع ما يحيط به إلا انعكاس لحس غريزي بالعدل أو الظلم ، والحذر كل الحذر من إيصال دموع الأولاد من مجرد تضرعات إلى أوامر " فشعور الولد بالضعف يجعله حريصاً على الإتيان بأعمال تُظهر القوة ليثبت لنفسه قدرته الخاصة " فلا تدلل الطفل ، ولا تطعه ، ولا تجعل أحداً يأخذ مكان القدوة منك ، ولا تحرص على تكوين لغته قسراً ، بل احرص على أن يكون كلامك أمامه صحيحاً ، ودعه لحريته الكفيلة باكتساب المقدرة اللغوية " وضيق نطاق مجموعة كلماته ما أمكن وذلك تحاشياً للضرر الكبير في حيازته كلمات أكثر من الأفكار ، ولمعرفته قول أشياء أكثر مما يفكر فيها " .4-2* التربية حياة :في مدرسة " روسو " يتعلم التلميذ مهنة الحياة ، ولا يهم بعدها أي ميل يبديه في مسارات الدنيا " فالطبيعة تدعوه إلى الحياة البشرية قبل الهام الأبوين " " الحياة هي التي أريد أن أعلمه إياها وبعدها لن يكون قاضياً أو جندياً أو رجل دين ، بل يكون رجلاً أولاً ، ولن يحمله النصيب على تغيير موضعه " وبالتمرين أكثر منه بالتعليم " نبدأ بتعليم أنفسنا وتبدأ تربيتنا معنا " منذ أن تدب الحياة فينا " يجب أن يُرى الرجل المجرد في تلميذنا ، الرجل المعرض لجميع عوارض الحياة البشرية " من خبر الحياة عاشها ، والخبرة بالإدراك المتراكم بالمستويين الأفقي والرأسي تربي الرجل في التلميذ وتحصنه ضد مخاطر الحياة ، فيعرف كيف يعيش " في جليد أيسلندة ، وعلى صخرة مالطة المحرقة " والحياة ليست بعَدِّ السنين ، بل بعيشها بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى . وإذا كان الفقير يدفعه فقره لأن يكابد مشقات الحياة ومصاعبها ، يجرب ويعاني، يتحمل ويختبر ، فما حاجته للتربية ؟ إذا ً فلتكن التربية موجهة للأغنياء لأن الفقراء ليسوا بحاجة إلى تربية " لا يحتاج الفقير إلى تربية ، فتربية حاله أمر قسري لا يقدر على نيل غيرها " والفقير عندما تطحنه معتركات الحياة يصبح رجلاً ، أما الغني الذي تسعى إليه ملذات الحياة فهو عالة على هذه الحياة يسرق جهد غيره ، ويتلذذ بآلام الفقراء ، وبتربيته نكون قد زدنا عدد الرجال ، وخلصنا الحياة من أحد مآسيها .4-3* التربية إعداد :والتربية هي إعداد للمستقبل بمقدار ما هي جهد لتكوين الرجل ، وإعداد للمواطن بقدر ما هي إعداد للمواطنين وبناء للوطن ، هي من حق الجميع ، ونتائجها للجميع . والتربية يقين يجمع المربي والمتربي في طريق يعيان فيه حقيقة الأشياء وجوهرها ، والتمييز بين الخير والشر بحيث يوصلهما هذا الطريق إلى الطبيعة ، إلى مكمن القوة الحقيقية الصحيحة التي تربط العقل بالجسد ، وتربط المواطن بالوطن ، والتربية وقاية ، فتربية الروح والجسد أفضل من علاج أمراضهما ، وفي ظل تربية حقيقية لا خوف من مرض ، لأن الخوف من المرض أكثر تشويهاً من المرض نفسه لذلك وضع " روسو " شرطاً آخر غير الغنى وهو صحة الجسم لأن " من يتولًّ أمر تلميذ عليل سقيم يحول عمله من مرب إلى ممرض .4-4* الإعداد والعمل : يقول "روسو " " إذا أرتم وجود رجال ذوي شجاعة حقيقية فابحثوا عنهم في الأماكن التي لا يوجد فيها أطباء مطلقاً .والمقصود هنا بالشجاعة قوة الروح والجسد وشعورهما الحقيقي بعدم الحاجة إلى طبيب ، لأنه مثلما الحياة حق فالموت حق ، فلا تتدخلوا بقانون الطبيعة ، دعوا الخلق للخالق ، ودعوا التربية للمربين لأن قوة التكيف والقدرة عليه هي التي تحمي من الأمراض " والاعتدال والعمل هما طبيبا الإنسان الحقيقيان ، فالعمل يشحذ شهوته والاعتدال يحُوْلُ دون إساءة استعمالها ". لذلك تأخذ الأعمال اليدوية مكانة رفيعة عند " روسو " " لأن الأعمال اليدوية والتمرينات البدنية تقوية للبنية والصحة " فالحياة عمل وتعلم . فالعمل يحتاج لبنية صحيحة ، والتعلم يحتاج لعقل سليم .4-5 * التنشئة بالتدريج والتربية بالسلوك : إن التدرج في تربية السلوك شرط لازم ، فالعادات الجيدة يكتسبها الولد مع النشوء بالتدريج وتنشر هذه العادات وتتشوه إذا تكون السلوك في ظل قيود تحد من حرية الحركة ، فالطفل عند الولادة يكون تلميذاً للطبيعة ، لا يعرف شيئاً ، لكنه قادر على التعلم ، ودور المربي هنا المراقبة والملاحظة وتتبع ورصد أول ومضات الإدراك . فالتعلم يحتاج إلى زمن ومحاولة ، إلى تجربة وخطأ ، والطفل يتعلم قبل أن يتكلم أو يفهم ، والتجربة تسبق الدروس ، وما الإحساسات الأولى إلا إحساسات عاطفية ، ودور المربي تسليح الطفل للحياة بإكسابه المقدرة على مواجهة كل الظروف ، وعدم السماح له بأن يألف عادة لأن ذلك يخل بتوازنه ، وأن يكون السعي الوحيد جعل الطفل سيد نفسه وسيد الظروف ولديه القدرة للسيطرة على المواقف كلها وذلك بإبعاده عن الخوف من المجهول وتربية الاكتشاف لديه وتمكينه من رؤية الأشياء كافةً وفي الظروف كلها ، والتعرض لجميع المواقف لكن بشكل تدريجي تعرض معه المعارف الجديدة بنظام ملائم وإعداد للذاكرة ، وإشعاره بتغيير المكان ، لأن رؤية الطفل للأشياء لا تبتعد أكثر مما تصل إليه إحساساته اتساعاً ، وعلى المربي قراءة هذه الاحساسات والاستجابة لها بشكل مناسب بحيث لا تنفصل مساقات التربية عن بعضها وأن تتم كلها بالتوازي ، فيتعلم الولد الكلام والأكل والمشي في وقت واحد تقريباً وهذا هو دور حياته الأول .5- خاتمة :لم يكن مصلحاً ، كان ثورياً ، نادى بتنظيم الثروة والتربية والديانة ، وهن ثلاث كن محرمات على عامة الناس ، وبهن يساس كل الناس " وكل ما نحتاج إليه إذا كان عظيماً فإننا نناله بالتربية " التي تأت من مصادر ثلاث الطبيعة والناس والأشياء ، فإذا توافقت في شخص صنعت منه مواطناً يشترك في مسؤولية تربيته كلاً الأبوين ، يعلمانه مهنة الحياة ، ونوعية السلوك ، يربيان فيه العقل والجسد والقدرة على التكيف في المواقف كلها والسيطرة عليها ، يعطيانه الحرية من غير حدود ، والالتزام دون قيود ، يربطانه بالوطن ويصوران الوطن فيه ، تربية سلوكه بالتدريج ، وضعه في مواقف حياتية تعلميه ، يتمرن فيها على الحياة ، يتعلم بالعمل ، بالانتقال من المحسوس إلى المجرد ، بالتجربة والخطأ والكشف ، بالاستجابة المناسبة لمثير معين ، بالزمن الكافي لتربية الفرد ينتظم النسل ، ويتحقق العدل ، وتتكون الصلات بين الكلمة والواقع ، بين الواقع والحياة ، التي إذا كانت بداياتنا فيها صحيحة ، عشنا وفي كل ثانية منها حقيقة . إضاءات تربوية قوية ، بل نظريات تربوية ثورية بنى عليها المربون من علماء عصره والمحدثون ، غيرت نظرة العالم إلى التربية ، وأسست لمناهج جديدة في التعليم والتعلم .* المراجع :6-1 : مكيافيللي نيقولو – الأمير – ترجمة فاروق سعد – منشورات دار الآفاق الجديدة – بيروت طبعه /11/ 1982 .6-2 : إمام عبد الفتاح إمام – الطاغية – كتاب عالم المعرفة الشهري –183- منشورات المجلس الوطني للثقافة والآداب آذار 1994 .6-3: الأبراشي محمد عطية – جان جاك روسو – دار أحياء الكتب العربية – طبعة ثانية 1951.6-4 : كالستروج ماك – نشأة الحرية في التربية – ترجمة أمين مرسي قنديل – محمد بدران مكتبة النهضة المصرية في جزأين 1949.* نُُشرت في مجلة التعليم والمجتمع – العدد -2- 2012ص7 | |
|